د. زيد حمزة
إنه مازال حياً يتألق بجمال متفرد فتان، فرحاً بمن يرتاده من الاهل والصحب والخلان وهم به فرحون، لكن اكثرهم لا يعلمون.. أنه في طريقه الى الموت فهو يذوي عاما بعد عام ونراه يتقلص وينكمش دون ان يرف للبعض منا جفن، إنه البحر الميت الذي اشبعناه غزلاً وتغنينا به كموقع سياحي في أخفض بقعة على البسيطة وعلّمْنا الاجيال في مدارسنا كم فيه من كنوز طبيعية على رأسها املاح البوتاس ولم نستبعد نهائياً احتواء باطنه على النفط ! هذا البحر الذي بقي في عزهِ ملايين السنين وكانت قواربُ وسفنٌ تنقل البضائع والناس قبل الفي عام بين ضفتيه الشرقية والغربية وآثار الميناءين الرومانيين شاهدةٌ على ذلك، ومنذ سبعين عاماً فقط وفي غفلة منا لا من العالم بدأ يضمُر وينحسر لا لأن نهر الاردن الذي كان يغذيه قد نضبت ينابيعه بل لان يداً امتدت لهذا النهر فسطت على مياهه وجرّتها لاماكن اخرى لا تمتُّ له بصلة ثم باركتْ السطوَ وشرعنتهُ في عام 1953 خطةٌ لتقاسُم (!) مياه نهر الاردن لم تَضعها الأمم المتحدة بل وضعها دبلوماسي اميركي عينّه ايزنهاور اسمه اريك جونستون.. ورفضتها الجامعة العربية لكن طاعتها مازالت واجبة حتى الآن! فماذا كان علينا ان نفعل؟ هل نترك هذا البحر يتحول لأرض بلقع ويشوهُ جماله وتضيع كنوزه وتخيب سمعته السياحية وتتدمر البيئة من حوله؟ أم كان انقاذه يكمن في الاشتباك بحروب المياه التي تنبأ بها بعض الخبراء والسياسيين قبل خمسة عقود فتوقّف بناء سد الوحدة ؟! أم في تعويضه بمياه نُسيلها له في انابيب سُمّيت قناة البحرين وتشكل بانحدارها متدفقةً من علٍ في البحر الاحمر الى منخفض وادي الاردن قوةً تولّد الكهرباء وتنعش البلاد بطاقة نظيفة يمكن استخدامها في تحلية مياه البحر (الاحمر) لنروي عطشنا ونحن من افقر دول العالم مائياً؟!
قبل ربع قرن استؤنف التفكير في قناة البحرين هذه كمشروع اردني في الاراضي الاردنية، وفي صمت لا يعني بالضرورة التكتم راح الخبراء يتبادلون الدراسات والتقارير حول التمويل والقروض ودور البنك الدولي وإذا بنا متورطون في مشروع اقليمي لاسرائيل فيه بالاكراه حصةٌ تجني من ورائها المكاسب والمنافع ناهيك عن فرض الشروط ووضع العراقيل خصوصاً بعدما ثبتتْ مشاركةُ فلسطين فيه بفضل مُشاطأتها لهذا البحر.. وتأجل المشروع مرة تلو الأخرى!
قبل سنوات خمس بُشرنا بان كل العقبات قد ذُللت وأن مرحلة التنفيذ قد أصبحت وشيكة وان طرح العطاءات بات قاب قوسين أو ادنى، وأن المياه المحلّاة سوف تبدأ في سد فجوات الفقر المائي الذي اشتهر به الاردن! ثم فجأة عرفنا أن ذلك الماء الزلال لن يكون من نصيبنا بل سوف يذهب كله لاسرائيل مباشرة في خليج العقبة مقابل ماءٍ من بحيرة طبريا معروفٍ بانه غير نظيف! وكان من الطبيعي تبعاً لذلك ان تقوم عندنا اعتراضات عديدة وشديدة من قبل المطلعين على حقائق الأمور، ثم..ران الصمت على المشروع مرة أخرى لاسباب لم يُعلن عنها بعد!
وبعد.. في الاسبوع الماضي وأنا استجم على شاطئ البحر الميت، في نفس الموقع الذي سحرني اول مرة قبل ستين عاماً وأذكر جيداً كيف كانت تضاريسه، راعني الفرق البشع وقد هبط سطح البحر كثيراً.. فجاء هذا المقال!